سورة الزمر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام:
النوع الأول: قوله: {قُلْ يا عِبَادِى الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى، وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية، قال القاضي: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم، لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط، فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى، لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد، فقال تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} فقوله: {فِى هذه الدنيا} يحتمل أن يكون صلة لقوله: {أَحْسَنُواْ} أو لحسنة، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة، والتنكير في قوله: {حَسَنَةٌ} للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها.
وأما على التقدير الثاني: فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية، وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية». ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه:
الأول: أن التنكير في قوله: {حَسَنَةٌ} يدل على النهاية والجلالة والرفعة، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا، فإنها خسيسة ومنقطعة، وإنما يليق بأحوال الآخرة، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني: أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وأيضاً فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار، وأيضاً فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
وقال تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
الثالث: أن قوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} يفيد الحصر، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا، وهذا باطل.
أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى، ثم قال الله تعالى: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} وفيه قولان الأول: المراد أنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان، حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه، قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم، والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن، ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} [النساء: 97] والقول الثاني: قال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة، وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله، أي جنته واسعة، لقوله تعالى: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] والقول الأول عندي أولى، لأن قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يليق إلا بالأول، وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر، فقد ذكرناه في سورة البقرة، والمراد هاهنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
المسألة الثانية: تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب، لأن الأجر هو المستحق، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجراً بحسب الوعد، لا بحسب الاستحقاق.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب، وفيه وجوه:
الأول: قال الجبائي: المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلاً فهو بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حساباً، قال القاضي هذا ليس بصحيح، لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق، والأجر غير التفضل الثاني: أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها: أنها تكون دائمة الأجر لهم، وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} معناه بغير نهاية، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب.
وثانيها: أنها تكون منافع كاملة في أنفسها، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه، وما لا يتوقعه الإنسان، فقد يقال إنه ليس في حسابه، فقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} محمول على هذا المعنى والوجه الثالث: في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال، روى صاحب الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب الله الموازين يوم القيامة، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صباً قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل».
النوع الثاني: من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى! فأنزل الله، قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأقول إن التكليف نوعان:
أحدهما: الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني: الأمر بتحصيل ما ينبغي، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال: {اتقوا رَبَّكُمُ} لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال: {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} وهذا يشتمل على قيدين أحدهما: الأمر بعبادة الله.
الثاني: كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير، وقوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، وفي هذه الآية فائدتان:
الفائدة الأولى: كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعاً فيه وأكثرهم مداومة عليه.
الفائدة الثانية: أنه قال: {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح، فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله: {مُخْلِصاً لَّهُ الدين} ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله في هذه الآية: {وَأُمِرْتُ لأَن أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ {أُمِرْتُ} لأنا نقول ذكر لفظ {أُمِرْتُ} أولاً في عمل القلب وثانياً في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريراً.
الفائدة الثالثة: في قوله: {وَأُمِرْتُ لأَن أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال: {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن الله أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجري هذا الكلام على نفسه، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفاً حذراً عن المعاصي فغيره بذلك أولى.
الفائدة الثانية: دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب، وهذا يطابق قولنا: إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة، فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب.
الفائدة الثالثة: دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب، وذلك لأنه قال في أول الآية: {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} ثم قال بعده: {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره، وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصياً، والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
النوع الثالث: من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} فإن قيل ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} وقوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى}؟، قلنا هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة، والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحداً غيره، وذلك لأن قوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} لا يفيد الحصر وقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْبُدُ} يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه، والدليل عليه أنه لما قال بعد: {قُلِ الله أَعْبُدُ} قال بعده: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ} ولا شبهة في أن قوله: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ} ليس أمراً بل المراد منه الزجر، كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه، وخسروا أهليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة، فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده ألبتة، وقال ابن عباس: إن لكل رجل منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة، فإن أطاع أعطى ذلك، وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين، والخاسر المغبون، ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} كان التكرير لأجل التأكيد الثاني: أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه، وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم ليها فتنبهوا لها الثالث: أن كلمة (هو): في قوله: {هُوَ الخسران المبين} تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كل خسران الرابع: وصفه بكونه (مبيناً): يدل على التهويل، وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسراناً مبيناً فلنبين بحسب المباحث العقلية كونه خسراناً مبيناً، وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسراناً ثم كونه مبيناً أما الأول: فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل، وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال، أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة.
وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر، والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية، فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأس المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء، وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح، وأيضاً حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال، واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال، وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح، إذا ثبت هذا فنقول: إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن، ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروماً عن الربح بالكلية، وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسراناً، فهذا بيان كونه خسراناً وأما الثاني: وهو بيان كون ذلك الخسران مبيناً فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار، فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضاً مزيد ضرر، أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات، واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد، فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها: أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلباً في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة.
وثانيها: أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة.
وثالثها: أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسباباً للعقوبة الشديدة والبلاء العظيم بعد الموت، وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم، ولا حرمان أعظم من حرمانهم، ونعوذ بالله منه.
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد، فقال: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب، ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة الجهل والحرمان والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان، فإن قيل الظلل ما على الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلل؟ والجواب من وجوه:
الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40].
الثاني: أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث: أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء، أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة.
قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] وقوله تعالى: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41].
ثم قال تعالى: {ذلك يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله: {ذلك} مبتدأ وقوله: {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} خبر، وفي قوله: {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} قولان الأول: التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفاً للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني: أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال، لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع من العذاب في الوجود تحصيلاً لذلك المطلوب الذي هو التكليف، والوجه الأول عندي أقرب، والدليل عليه أنه قال بعده: {يا عِبَادِ فاتقون} وقوله: {يا عبادِ} الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين في أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى.


{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}
اعلم أن الله تعالى لما ذكر وعيد عبدة الأصنام والأوثان ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن الشرك، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمال الترغيب والترهيب، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: الطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين، وفي هذا اللفظ أنواع من المبالغة أحدها: التسمية بالمصدر كأن عين ذلك الشيء الطغيان.
وثانيها: أن البناء بناء المبالغة فإن الرحموت الرحمة الواسعة والملكوت الملك المبسوط.
وثالثها: ما ذكرنا من تقديم اللام على العين ومثل هذا إنما يصار إليه عند المبالغة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن المراد من الطاغوت هاهنا الشيطان أم الأوثان، فقيل إنه الشيطان فإن قيل إنهم ما عبدوا الشيطان وإنما عبدوا الصنم، قلنا الداعي إلى عبادة الصنم لما كان هو الشيطان كان الإقدام على عبادة الصنم عبادة للشيطان، وقيل المراد بالطاغوت الصنم وسميت طواغيت على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها، والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان عند مشاهدتها والقرب منها، وصفت بهذه الصفة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب بحسب الظاهر، وقيل كل ما يعبد ويطاع من دون الله فهو طاغوت، ويقال في التواريخ إن الأصل في عبادة الأصنام، أن القوم كانوا مشبهة اعتقدوا في الإله أنه نور عظيم، وفي الملائكة أنها أنوار مختلفة في الصغر والكبر، فوضعوا تماثيل وصوراً على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على أعتقاد أنهم يعبدون الله والملائكة، وأقول حاصل الكلام في قوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت} أي أعرضوا عن عبودية كل ما سوى الله. قوله تعالى: {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} أي رجعوا بالكلية إلى الله. ورأيت في السفر الخامس من التوراة، أن الله تعالى قال لموسى: يا موسى أجب إلهك بكل قلبك.
وأقول ما دام يبقى في القلب التفات إلى غير الله فهو ما أجاب إلهه بكل قلبه، وإنما تحصل الإجابة بكل القلب إذا أعرض القلب عن كل ما سوى الله من باب الطاعات فكيف يعرض عنها مع أنه بالحس يشاهد الأسباب المفضية إلى المسببات في هذا العالم، قلنا ليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقضي عليها بالعدم فإن ذلك دخول في السفسطة وهو باطل، بل المراد أن يعرف أن واجب الوجود لذاته واحد، وأن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته فإنه لا يوجد إلا بتكوين الواجب وإيجاده، ثم إنه سبحانه وتعالى جعل تكوينه للأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات والروحانيات، ومنها ما يكون بواسطة وهو عالم العناصر والعالم الأسفل، فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أن الكل لله ومن الله وبالله، وأنه لا مدبر إلا هو ولا مؤثر غيره، وحينئذٍ ينقطع نظره عن هذه الممكنات ويبقى مشغول القلب بالمؤثر الأول والموجد الأول، فإنه إن كان قد وضع الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إلى هذا المطلوب، فهذا الشيء يحصل وإن كان قد وضع بحيث لا يفضي إلى حصول هذا الشيء لم يحصل، وبهذا الطريق ينقطع نظره عن الكل ولا يبقى في قلبه التفات إلى شيء إلا إلى الموجود الأول، وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره، فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها، وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقاً بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب.
أما القسم الأول: فهو حوادث هذا العالم الأسفل.
وأما القسم الثاني: فهو حوادث هذا العالم الأعلى، وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعاً لله في حكمته مخالفاً في تدبيره، فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناءً على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب، فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت} إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى: {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله، ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها: قوله تعالى: {لَهُمُ البشرى} واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها: أن هذه البشارة متى تحصل؟ فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والراحة والريحان.
وثانيها: أن هذه البشارة فبماذا تحصل؟ فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات، أما زوال المكروهات فقوله تعالى: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} [فصلت: 30] والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله: {أَن لا تَخَافُواْ} يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا، ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال: {وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] وقال أيضاً في آية أخرى: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم بُشْرَاكُمُ اليوم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الحديد: 12] وقال أيضاً: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون} [الزخرف: 71] والثالث: أن المبشر من هو؟ فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة، إما عند الموت فقوله: {الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] وإما بعد دخول الجنة فقوله: {الملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23، 24] ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} [الأحزاب: 44].
واعلم أن قوله: {لَهُمُ البشرى} فيه أنواع من التأكيدات أحدها: أنه يفيد الحصر فقوله: {لَهُمُ البشرى} أي لهم لا لغيرهم، وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى.
وثانيها: أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء، ولم يبق منها نصيب لغيرهم.
وثالثها: أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات، إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخباراً، فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها، قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
ورابعها: أن المخبر بقوله: {لَهُمُ البشرى} هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطاً عظيماً. ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار، فثبت أن قوله: {لَهُمُ البشرى} يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه، والله أعلم.
واعلم أنه تعالى: لما قال: {لَهُمُ البشرى} وكان هذا كالمجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى: {فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى، والإقبال بالكلية على طاعة الله، والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا، هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الحرف، ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون، وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين، وذلك لا يليق بالرحمة التامة، لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء، واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد:
الفائدة الأولى: وجوب النظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب، ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع، لأن السماع صار قدراً مشتركاً بين الكل، لأن قوله: {الذين يستمعون القول} يدل على أن السماع قدر مشترك فيه، فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال.
الفائدة الثانية: أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان: أحدهما: إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل والثاني: أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول. مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم، أولى من إنكار ذلك، فكان ذلك المذهب أولى، والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته، وأيضاً الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضاً مؤلفاً، وأيضاً القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه اليهما، وأيضاً القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة، وكل هذه الأبواب تدخل تحت قوله: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات.
وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين: منها ما يكون من أبواب العبادات، ومنها ما يكون من أبواب المعاملات، فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر وتكون النية فيها مقارنة للتكبير، ويقرأ فيها سورة الفاتحة، ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة، ويقرأ فيها التشهد، ويخرج منها بقوله السلام عليكم، فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال، وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة، وأن يترك ما سواها، وكذلك القول في جميع أبواب العبادات.
وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو، ولكنه ندب إلى العفو فقال: {وأن تعفو أقرب للتقوى} وعن ابن عباس أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه.
واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال: {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} وفي ذلك دقيقة عجيبة، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث، ولا بد له من فاعل وقابل: أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله: {أولئك الذين هداهم الله} وأما القابل فإليه الإشارة بقوله: {وأولئك هم أولوا الألباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه.
وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سبباً لرجحان أحد الطرفين، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية، امتنع أن تصير ذات الجسم سبباً لرجحان أحد الطرفين على الآخر، فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين، فتصير تلك الإرادة سبباً لذلك الرجحان، فنقول هذا باطل، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة، فيمتنع كون جوهر النفس سبباً لتلك الإرادة، فثبت أن حصول الهداية لابد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل: فيمتنع أن يكون هو النفس، بل الفاعل هو الله تعالى وأما القابل: فهو جوهر النفس، فلهذا السبب قال: {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} ثم قال: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في لفظ الآية سؤال وهو أنه يقال إنه قال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الاسم وعلى الخبر معاً، فلا يقال أزيد أتقتله، بل هاهنا شيء آخر، وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء، فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معاً وهو قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ}، {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوهاً الأول: قال الكسائي: الآية جملتنا والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب، أفأنت تحميه، أفأنت تنقذ من في النار الثاني: قال صاحب الكشاف: أصل الكلام أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه، وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، والآية على هذا جملة واحدة الثالث: لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد هاهنا لإفادة معنى الإنكار، ولما كان استنكاره هذا المعنى كاملاً تاماً. لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيهاً على المبالغة التامة في ذلك الإنكار.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، وذلك لأنه تعالى قال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وانقلاب علمه جهلاً وهو محال والوجه الثاني: في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه، ولو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى.
المسألة الثالثة: احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر، قال لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار، وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد، فيقال له لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] ومع قوله: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53]، والله أعلم.
النوع الثاني: من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] فإن قيل ما معنى قوله: {مَّبْنِيَّةٌ}؟ قلنا لأن المنزل إذا بنى على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله: {مَّبْنِيَّةٌ} معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل، والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة، أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ونقصانه الرخاوة والسخافة، وأما التحتاني فبالضد منه، أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل وهي عالية مرتفعة وتكون في غاية القوة والشدة، وقال حكماء الإسلام هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض، مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية فإن بعضها يكون مبنياً على البعض والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية.
ثم قال: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وذلك معلوم، ثم ختم الكلام فقال: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} فقوله: {وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى وعدهم الله ذلك وفي الآية دقيقة شريفة، وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية، وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة، فإن قالوا أليس أنه قال في جانب الوعيد: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} [ق: 29] قلنا قوله ما يبدل القول لدي ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو كلام عام يتناول القسمين أعني الوعد والوعيد، فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق، والله أعلم.


{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}
اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة لأولي الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها، وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل كل ما كان في الأرض فهو من السماء، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه فيسلكه ينابيع في الأرض، أي فيدخله وينظمه ينابيع في الأرض عيوناً، ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام، يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم ثم يهيج، وذلك لأنه إذا تم جفافه جاز له أن ينفصل عن منابته، وإن لم تتفرق أجزاؤه، فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم يصير حطاماً يابساً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} يعني أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلابد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء، ثم تكون عاقبته الموت. فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته، فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها. والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوي الرغبة في الآخرة، وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا، فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله، وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا، وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض، والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض، فهذا تمام الكلام في تفسير الآية، بقي هاهنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ، قال الواحدي: والينابيع جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع وينبع وينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي والفراء، وقوله: {يَنَابِيعَ} نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر، والحطام ما يجف ويتفتت ويكسر من النبت.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7